سورة النور - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)}.
التفسير:
اختلف المفسرون في الحرج الذي رفع عن الأعمى، والأعرج، والمريض.
وذهب أكثرهم إلى القول بأن هذا الحكم نزل في شأن أولئك الزمنى، وأصحاب العاهات، الذين كانوا يقومون على شئون المسلمين الذاهبين إلى الغزو، حيث يخلّفونهم وراءهم، ويدعون إليهم التصرف في شئونهم.. ويضعون في أيديهم ما يملكون، من مال أو متاع إلى أن يعودوا من الغزو..!
وهذا الرأى يعارضه ما جاء في قوله تعالى في هذه الآية: {أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} فهؤلاء الزمنى والمرضى، يدخلون في عموم هذا الحكم، سواء كانوا ممن في أيديهم مفاتيح المجاهدين، أو كانوا أصدقاء لهم.
والذي نذهب إليه، ونرجو- إن شاء اللّه أن يكون صحيحا- هو أن الآية الكريمة دعوة إلى البر والتوادّ بين المسلمين عامة، وبين الأهل والأقارب خاصة.. وأنه إذا كان للمسلم أن يتحرج من أن يستطعم أو يطعم من أحد من الناس، فإنه ليس له أن يتحرج من أن يستطعم أو يطعم من أحد من الناس، فإنه ليس له أن يتحرج أو يخزى، إذا هو أصاب طعامه عند أحد من أقاربه هؤلاء، الذين ذكرهم اللّه سبحانه في تلك الآية، من الآباء والأمهات، والإخوة، والأخوات، والأعمام والعمات والأخوال والخالات- فهؤلاء جميعا أبناء أسرة واحدة، قد قضوا فترة من حياتهم معا، يظلهم سقف واحد، وتجمعهم معيشة واحدة.. فإذا التمس أحدهم طعاما، ولم يجده في بيته، كان له أن يلتمسه عند أىّ من الأقارب، وأن ينال منه شبعه، بإذن أو بغير إذن.
هكذا التكافل بين الأقارب وذوى الأرحام.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، كانت دستورا يحكم العلاقة بين الأقارب، وذوى الأرحام، من رجال ونساء، في اختلاط بعضهم ببعض، كما أنها تحكم العلاقة بين المسلمين عامة- من رجال ونساء- في دخول البيوت، بعد الاستئذان، والإذن من أصحابها.
ولما كان هذا الاختلاط بين الأقارب، وهذا لتزاور بين المسلمين عامة، يضع المخالطين والزائرين في أحوال يشهدون فيها طعاما بين يدى أهل البيت الذي دخلوا إليه مستأذنين- فقد كان من تمام الحكمة أن تبين الشريعة ما يقضى به الموقف إزاء هذا الطعام الممدود، وهل من حرج على من يحضره أن يتناول منه، إذا دعى إليه؟ إن الذي دخل البيت هنا لم يكن يقصد الطعام الذي حضرة.. وربّما يقع في شعور أهل المنزل أنه جاء يطلب الطعام، ويرصد وقته، وقد يكون الزائر جائعا فعلا، ونفسه تشتهى هذا الطعام، ولكنه يتحرج أن ينال منه.
إن هناك مشاعر كثيرة مختلطة تشتمل على أهل الدار وعلى زائرهم.
فكان ما جاءت به الآية الكريمة هنا، ما يصحح هذه المشاعر، ويقيمها على ميزان حكيم عادل كما سنرى.
فقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ، وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ}.
.- هو رفع للحرج عن هذه الأصناف التي ذكرتها الآية، من أن يستطعموا، ويطعموا من تلك البيوت التي يطرقونها ولا حرج عليهم في هذا.
أما الأعمى، والأعرج، والمريض.. فإنهم حين يقعون تحت داعية الحاجة إلى الطعام، ويعجزهم حالهم عن أن ينالوا من كسب أيديهم، فإنهم في هذه الحال أبناء الأسرة الإسلامية كلها، وإن لهم على المجتمع حقّ الإطعام، كما للابن على أبيه أن يدخل بيته، وينال من الطعام ما يسد جوعته.
ولكى يتقرر هذا المعنى في نفوس المسلمين، ولكى يصبح هذا الأمر حقّا، للأعمى والأعرج والمريض، على المجتمع الإسلامى، يطالب كل منهم به، ويستأدبه من أي مسلم قادر على الوفاء به، دون أن يكون في ذلك جرح لكرامته، أو منّة وفضل عليه من أحد- نقول لكى يتقرر هذا، فقد قدّمهم القرآن على الأهل والأقارب، إذا كانوا على الصحة والسلامة، وكانوا أقدر على أن يجدوا حيلة لدفع غائلة الجوع عنهم، بخلاف هؤلاء العجزة الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
فجاءت الآية برفع الحرج عن هؤلاء العجزة أولا، ثم دخل معهم هؤلاء الذين جاءت بهم الآية، من الأقارب، وذوى الأرحام.. ثانيا.
وهذا الذي ذهبنا إليه، هو الذي يتفق مع روح تلك الشريعة السمحاء، التي قامت على التآخى بين الناس، والتكافل بين المسلمين جميعا.
وفى هذا يقول الرسول الكريم: «ليلة الضّيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروما كان دينا عليه، فإن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه».
ويقول- صلوات اللّه وسلامه عليه: «أيّما مسلم ضاف قوما فأصبح الضيف محروما، فإن حقّا على كل مسلم نصره، حتى يأخذ بقرى ليلته، من زرعه وماله».
وروى البخاري ومسلم عن عقبة بن عامر قال: قلنا يا رسول اللّه تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا.. فما ترى في ذلك؟ فقال- صلوات اللّه وسلامه عليه: «إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغى للضيف فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغى لهم».
والذي ينظر في الآية الكريمة يجد أن مساقها يشير إشارة واضحة إلى أن المقصود برفع الحرج فيها، إنما هو عن أولئك العجزة.. من الأعمى، والأعرج والمريض، وأن من دخل بعدهم في هذا الحكم من الأهل والأقارب، إنما جاء ليدعم هذه القضية، قضية العجزة، وليدلّ على أنهم أولى في هذا المقام من الأهل والأقارب، وأنه إنما رفع الحرج عن الأقارب، تبعا لهؤلاء.
ففى قوله تعالى: {وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ} ما يشعر بأن شيئا ما من الحرج مع هذا الإذن، وأن الإسلام قد تجاوز عنه، تخفيفا ورحمة، إذ كان المقام مقام رحمة عامة تنال البعيد، ولا يحرم منها القريب.
ولهذا جاء التصريح نصا برفع الحرج، عن الأعمى، وعن الأعرج، وعن المريض.. هكذا.
{ليس على الأعمى حرج} {ولا على الأعرج حرج} {ولا على المريض حرج} وكل واحد منهم قد نصّ على رفع الحرج عنه.. زيادة في التقرير، والتوكيد.. وإلّا كان من مقتضى النظم أن يجىء رفع الحرج.. مرة واحدة عن جميع المتعاطفين.. هكذا: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}.
ثم إنه حين جاء ذكر الأقارب، لم يجىء رفع الحرج عنهم نصّا مصرّحا به، بل جاء بالحمل على الحكم الذي كان للمعطوف عليهم، وهم هؤلاء العجزة!.. ولكأن المعنى هو: حتى ولا على أنفسكم حرج.
وفى قوله تعالى: {أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ}.
إشارة إلى صنفين آخرين من الناس، ليس عليهم حرج في أن يأكلوا مما ليس لهم.
والصنف الأول، هم الذين في أيديهم مفاتيح غيرهم، كالوكلاء، والأوصياء، وغيرهم، ممن يتولّون شئون غيرهم، وحفظ أموالهم وأمتعتهم، فهؤلاء لهم أن يأكلوا مما تحت أيديهم، بالمعروف، من غير إسراف، وذلك إذا كانوا في حاجة إلى هذا الذي يأكلونه.. كما يقول سبحانه: {وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [6: النساء].. أما الصنف الآخر، فهم الأصدقاء، إذ أن لهم على أصدقائهم هذا الحق الذي يجعل لهم مما في أيدى أصدقائهم شيئا، أقلّه هو لقمة الطعام عند الحاجة.. لأن الصداقة، لا تكون صدقا إلا إذا وصلت بين الصديقين بحبل المودّة والإخاء.
هذا، ويلاحظ في الآية الكريمة أمران:
أولهما: أنها لم تذكر الأبناء، بالنسبة للآباء، على حين ذكرت الآباء، وفتحت بيوتهم للأبناء.. وذلك لأن الأبناء لا يتحرّجون أبدا من أن يطعموا مما يجدون في بيوت آبائهم.. وكيف وقد أنبتتهم هذه البيوت، وغذتهم منذ الولادة إلى أن صاروا رجالا.. فهل تنكرهم هذه البيوت بعد هذا؟ وهل يجد أحد منهم وحشة في دخولها، وتناول طعامه منها؟ ذلك ما لا يكون! أما الآباء فإنهم إذ تلجئهم الحاجة إلى بيوت أبنائهم، فإنهم يغشون بيوتا لم يكن لهم بها عهد.. إنها بيوت مستحدثة، أحدثها أبناؤهم، بعد أن كبروا، واستقلوا بحياتهم.
ومن هنا تكون الوحشة، ويكون الحرج.. وقد جاء القرآن الكريم برفع هذا الحرج.
ومن جهة أخرى، فإن الآباء، لا يمكن أن يضيقوا أبدا بأبنائهم إذا دخلوا عليهم، وطعموا من طعامهم، في أي وقت، وعلى أي حال، بل إن ذلك هو مبعث السعادة والرضا إلى قلوب الآباء، بخلاف كثير من الأبناء، فإن فيهم العاقّ الذي لا يرعى حقوق الأبوة، والذي قد يضيق بدخول أبيه عليه، والأكل مما عنده.. ولهذا جاء الأمر بفتح هذه الأبواب.. أبواب الأبناء.
للآباء!.
وثانيهما: أن هذا الترتيب الذي جاءت عليه الآية في ذكر هذه الأصناف، هو ترتيب تنازلى في رفع الحرج، حسب درجة القرابة.. كما هو واضح في الآية.
الآباء أولا، فالأمهات، فالإخوة، فالأخوات، فالأعمام، فالعمات، فالأخوال، فالخالات.
بقي بعد هذا، أن نسأل عن تأويل قوله تعالى: {وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} فهل هناك حرج في أن يأكل الإنسان من بيته، حتى يدخل هذا في عموم الحكم القاضي برفع الحرج؟ إن أكل الإنسان من بيته هو الأصل الأصيل في هذا الباب، فكيف يجىء حكم برفع حرج عن أمر لا حرج فيه أصلا؟.
والجواب على هذا- واللّه أعلم- هو أن بيت الإنسان، وما فيه من مال، ومتاع، وطعام، وإن كان ملكا خالصا له، يتصرف فيه بما يشاء، وكيف يشاء- إلا أن ذلك ليس على إطلاقه في مفهوم الشريعة الإسلامية.
فالشريعة مع تسليمها بحق الإنسان بالتصرف فيما يملك، وبالتسلط على ما في يده من مال ومتاع- لا تعزل المسلم عن المجتمع الذي يعيش فيه، ولا تعزل المجتمع عنه فهو- أيّا كان- خلية في هذا المجتمع، وعضو من أعضاء هذا الجسد الكبير.. وأن ما يملكه الإنسان ليس ملكا خالصا له، وإنما تتعلق بهذا الملك حقوق للّه، وللوالدين والأقربين، والفقراء والمساكين، وابن السبيل، والمجاهدين في سبيل اللّه.
هذا ما ينبغى أن يقيم عليه المسلم، شعوره في كل ما يملك.. إن له في هذا الملك شركاء، منظورين، وغير منظورين.
وإذن فلا يغلق بابه على ما فيه من طعام، ولا يمسك يديه عما معه من مال، وإنه لن يكون على شريعة الإسلام إذا خلت نفسه من هذا الشعور، أو ضنّ بما تعلق من حقوق فيما بين يديه من فضل اللّه.
وعلى هذا نجد ما جاءت به الآية الكريمة من رفع الحرج عن أصحاب البيوت أن يأكلوا من بيوتهم، هو إلفات حكيم لأصحاب البيوت إلى أنهم ليسوا هم وحدهم أصحابها، والمستأثرين بما فيها، وأن هناك أصحاب حقوق يشاركونهم فيما في هذه البيوت، فإذا جاء أحد أصحاب الحقوق يطرق أبوابهم، فليفتحوا له، وليؤدوا إليه حقه! وألا إن الطارقين لكثيرون.. يأتون إليهم من قريب وبعيد.
فلا يضيقوا بهم، ولا يضجروا.. إنها حقوق يجب أن يؤدوها لهم، وأن يبرئوا ذمتهم منها، إن كانوا مؤمنين باللّه، مطيعين لما يأمر به اللّه.. وهنا يرفع الحرج عما يملكون، في أن ينتفعوا به، ويطلقوا أيديهم للتصرف فيه، بعد أن أدّوا ما عليهم من حقوق.. وإلا فإن الحرج قائم.. حتى تؤدى هذه الحقوق.
هكذا الملكية في شريعة الإسلام.. ملكية تتعلق بها حقوق، وتقوم عليها التزامات، ولن تصبح ملكا خالصا لمالكيها، حتى يؤدوا ما عليها من حقوق، ويفوا بما عليها من التزامات.
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً} أي ليس عليكم أيها المسلمون حرج في أن يأكل الواحد منكم وحده أو في جماعة.
حسب الظروف والأحوال.. وذلك أنه كان من عادة العرب ألّا يأكل الإنسان إلا إذا التمس من يأكل معه، ويشاركه فيما يأكل.. وفى هذا يقول شاعرهم:
إذا ما صنعت الزّاد فالتمسى *** له أكيلا فإنى لست آكله وحدي
فلما جاء الإسلام، ودعا إلى التكافل بين المسلمين، أمسك المسلمون بهذه العادة، وجعلوها أمرا ملزما، وخاصة بعد أن سمعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لهم: «ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا بلى يا رسول اللّه؟ قال: من أكل وحده، ومنع رفده، وضرب عبده».
ولا شك في أن مقصد الرسول الكريم بمن أكل وحده، هو ذلك الشره الشحيح الذي يؤثر نفسه بما بين يديه من طعام، دون أن يلتفت إلى من حوله من زوج، وولد، وخادم.. فإنه قلّ أن يأكل الإنسان وحده إلا إذا كان على تلك الصفة.. أما في غير تلك الحال، فإنه لا بأس من أن يأكل الإنسان وحده، ولهذا جاء القرآن برفع الحرج.
قوله تعالى: {فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
المراد بالبيوت هنا، هى تلك البيوت التي أشارت إليها الآية، والتي أذن بدخولها للأصناف الذين ذكروا فيها.
فهذه البيوت، لها حرمتها، ولأهلها الذين هم فيها علاقة مودة وقربى بمن يدخلون عليهم فيها.. ومن أجل هذا كان التسليم على أهلها، وصلا لهذه المودة، واستدعاء لهذه القرابة، التي تجمع المسلمين جميعا.
وفى قوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ} إشارة إلى أن الذي يدخل هذه البيوت، هو بعض ممن فيها. وأنه وقد دخلها- سواء أكان قريبا، أو صديقا، أو غير قريب أو صديق- فقد صار من أهلها، وصار أهلها منه.. وهكذا يصبح بيت كل مسلم بيتا لكل مسلم! وفى قوله تعالى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً} هو مفعول مطلق لقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا} الذي ضمّن معنى: فَحَيُّوا أي فحيوا أنفسكم تحية من عند اللّه مباركة طيبة، هى تحية الإسلام.. أي السلام عليكم.
ففى هذه التحية البركة، والطّيب، لما تشيع في النفوس من أمان وسلام، ومودة وإخاء.
هذا ويجوز أن يكون {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} منصوبا بفعل محذوف، تقديره، فسلموا على أنفسكم، وتقبلوا تحية من عند اللّه مباركة طيبة.
وفى قوله تعالى: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
وفى جعل فاصلة الآية {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} إشارة إلى أن في هذه الآية معانى دقيقة تحتاج إلى روية وتعقل، لإدراك مراميها البعيدة، وأسرارها العظيمة.
وحسب المرء أن يدبر عقله، إلى تلك الرعاية التي أوجبها الإسلام على المسلمين في حق أصحاب العاهات، والمرضى، الذين هم الأعضاء الضعيفة في المجتمع، تلك الأعضاء التي ينبغى أن تكون موضع رعاية، وعناية، كما يرعى الإنسان بعض أعضائه، إذا أصابها مكروه..!


{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
هذه الآية تحكم الصلة التي بين المؤمنين وبين النبي صلوات اللّه وسلامه عليه بعد أن جاءت الآية السابقة لتحكم الصلة بين أفراد المجتمع الإسلامى.
وأنها صلة وثيقة العرى، ملاكها السمع والطاعة لرسول اللّه من كل مؤمن ومؤمنة.
وحقيقة إيمان المؤمن، الإيمان باللّه ورسوله، ثم السمع والطاعة والولاء للرسول.. والمحكّ الذي يظهر عليه ما عند المؤمن من طاعة، هو ساعة الضيق والعسرة، وامتحان المسلم، في نفسه وماله.
قوله تعالى:- {وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ}.
الأمر الجامع: هو الأمر العظيم، الذي يدعى له المسلمون جميعا، ليواجهوه، وليحمل كل منهم نصيبه منه. وذلك في حال الدعوة إلى الجهاد، والنّفرة إلى لقاء العدو.. فإذا دعا النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلى الجهاد، واجتمعت جماعة المسلمين، لم يكن لأحد منهم أن يذهب لشأن من شئونه، أو يشغل بأمر خاص به، إلا بعد أن يستأذن النبىّ، فإن أذن له مضى، وإلا لزام مكانه.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} هو إذن للمؤمنين، من ذوى الأعذار في أن يستأذنوا.. فليس طلب الإذن من النبىّ مما يحظر على المسلم في هذا الوقت.. فالإسلام يسر لا عسر، والرسول الكريم، خير من يقدّر حال المستأذن وظروفه.
وقوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} أي إنّ طلب الإذن ليس معناه إجابة هذا الطلب، بل إن ذلك يرجع إلى تقدير النبىّ، ونظره إلى الأمر من جميع وجوهه، فقد يرى أن يأذن لبعض، ولا يأذن الآخرين.. فهذا وذلك مما يقضى به الرسول، وعلى المسلم أن يسمع ويطيع.
وفى قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ.. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} إشارة إلى أن طلب الإذن في هذا الأمر الجامع، وإن كان مباحا- فإن تركه أولى وأفضل، إذ أن فيه إيثارا على النفس، وتضحية بالخاص من أجل العام، ومع هذا، فإن الذين يستأذنون ويأذن الرسول لهم، قد شملهم اللّه بمغفرته ورحمته، إذ أمر رسوله أن يستغفر لهم اللّه، واللّه غفور رحيم.. وهذا من سماحة هذا الدين ويسره.
قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
الدعاء: الأمر الذي يحمل دعوة، أو الدعوة التي تحمل أمرا.
يتسللون: أي ينسحبون في خفاء، من غير أن يشعر بهم أحد.
اللّواذ: الفرار طلبا للسلامة والعافية.
والآية تحت المسلمين على الامتثال لأمر الرسول الكريم، والاستجابة لما يدعوهم إليه، من غير مهل، أو تردّد.. فليست دعوة الرسول للمسلمين، مثل دعوة بعضهم لبعض، حيث يكون للإنسان الخيار في أن يجيب دعوة الداعي أو لا يجيب.
إن دعوة الرسول، هى أمر من أمر اللّه، ليس لمؤمن ولا مؤمنة الخيار في هذا الأمر، وإنما عليه الطاعة والامتثال.. واللّه سبحانه وتعالى يقول:
{وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [36: الأحزاب] ودعاء الرسول هنا، هو دعاء إلى الجهاد في سبيل اللّه، وهو أمر ملزم لكل قادر على حمل السلاح.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [120 التوبة] وقد يكون الدعاء لأمر غير الجهاد، وهو- أيّا كان- أمر ملزم لمن تلقى الأمر من الرسول، فإنه لا يأمر إلا بخير، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ} [24: الأنفال] قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
قد، هنا، للتحقيق، والتوكيد.
والمعنى: إن اللّه ليعلم الذين يتسلّلون من بين المسلمين، ويخرجون في خفية، فرارا بأنفسهم، وطلبا للدعة والراحة.
فليحذر هؤلاء المتسلّلون، الذي خرجوا على أمر الرسول، ونكصوا على أعقابهم، أن تصيبهم فتنة وابتلاء في الدنيا، حيث يفتضح أمرهم، ويصبحوا في عداد المنافقين.. فإن لم يصبهم هذا في الدنيا، لم يفلتوا من عذاب اللّه في الآخرة.
وهو عذاب أليم، نعوذ باللّه منه.
وفى تعدية الفعل {يُخالِفُونَ} بحرف الجر {عَنْ} مع أنه فعل يتعدى بنفسه.. إشارة إلى أن هذا الفعل قد ضمن معنى الخروج، فهو مخالفة، وخروج معا، إذ قد تكون المخالفة في الرأى، ثم يكون الامتثال بالعمل.
وهؤلاء المخالفون الذين يتوعدهم اللّه إنما جمعوا بين المخالفة في الرأى، والخروج عليه قولا وعملا.
وهذا يشير إلى أن مراجعة الرسول، فيما يأمر به، مما لم يستبن للمسلم منه الحجة الواضحة والدليل المقنع- هذه المراجعة، بل المعارضة أحيانا لا حرج منها، إذ كانت غايتها هى وضوح الرؤية، وانكشاف الطريق، لعينى المؤمن، حتى يكون على بينة من أمره، وحتى يمتثل ما يؤمر به، وهو على هدى وبصيرة، واقتناع.
فدعوة الإسلام دعوة قائمة على العدل، مستندة إلى الحجة والبرهان.
ومن ثمّ كان على المسلم أن يعرض أمور دينه كلها على عقله، وأن يلتمس الدليل المقنع، والحجة القاطعة في كل أمر.. فإذا لم يسعفه عقله بالدليل، وجب عليه امتثال ما يؤمر به، مع اليقين بأنه هو الحق، والخير.. إذ ليس العقل إلا حاسّة من الحواس العاملة في الإنسان، وشأنه شأن كل حاسّة في أن له حدودا يعمل فيها، وأنه إذا جاوز هذه الحدود بطل عمله.
وفى سيرة الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- مع صحابته رضوان اللّه عليهم، كثير من المواقف، التي يلقى فيها الصحابة رسول اللّه- في أدب رائع واحترام عظيم- معترضين أو مخالفين، حتى إذا كشف لهم الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- عن وجه الأمر، أو أراهم من نفسه أنه ماض لم أمرهم به، لم يكن لأحد منهم إلا السمع والطاعة، في إيمان ثابت ويقين مكين.
وتذكر هنا- من باب الإشارة- ما كان من الحباب بن المنذر بن الجموح، حين رأى النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- وقد أنزل المسلمين منزلا في غزوة بدر، فلما لم يره الحباب بالمنزل المناسب للمسلمين، جاء إلى رسول اللّه يسأله قائلا: يا رسول اللّه.. أهو منزل أنزلكه اللّه، فليس لنا أن نتحول عنه، أم هو الرأى والمكيدة والحرب؟ فقال صلوات اللّه وسلامه عليه: «بل هو الرأى والمكيدة والحرب».
وهنا أشار الحباب بالمنزل الذي رآه.. فأخذ النبىّ برأيه، وتحول بالمسلمين إليه.. فكان المنزل المبارك، الذي هبت على المسلمين ريح النصر منه!! فمخالفة الرسول هنا ليست لمجرد المخالفة، وإنما هى للنصح للمسلمين، أو لنصح المرء لنفسه ولدينه، حتى لا يكون في صدره حرج مما يؤمر به! وبذلك تطيب نفس المسلم، ويسلم له دينه، ويتضح له طريقه، ومن هنا يقوم بينه وبين معتقده ألفة وحب، حيث لا يدخل عليه شيء لم يرضه، ويعتقده، عن إيمان واقتناع.
قوله تعالى: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
بهذه الآية تختم السورة الكريمة، مضيفة هذا الوجود كله إلى اللّه سبحانه وتعالى، الذي أوجده، وأقامه على سنن، وأخذه بنظام حكيم، لا يتخلف عنه أبدا. والإنسان هو بعض ما للّه- هو جزء من هذا الوجود.. وهذه الأحكام والشرائع التي سنها اللّه سبحانه وتعالى للإنسان، وبين له فيها الطريق الذي يسلكه، والطرق التي يجتنبها- هى من سنن هذا الوجود، وفى خروج الإنسان عن أمر اللّه خروج على هذه السنن، وانحراف عن الوضع السليم الذي يجب أن يكون عليه، الأمر الذي يعرّضه للعزلة عن هذا الوجود، ويلقى به بعيدا عن دائرة الأمن والسلامة.. ومن هنا يجىء شقاؤه في الدنيا والآخرة جميعا.
وفى قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ} تحذير للمخالفين للّه، الخارجين على سننه، المتمردين على أوامره تحذير لهم من عقابه الراصد، وعذابه الأليم.
لأنه سبحانه يعلم كل شىء، ويعلم من الإنسان ما يخفى وما يعلن، وما هو عليه من صلاح وفساد، وطاعة وعصيان، واستقامة وانحراف.. وقد هنا، للتحقيق والتوكيد.
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا} هو جواب لسؤال يرد على الخواطر، بعد الاستماع إلى قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ}، وهو: ما وراء هذا العلم الذي علمه اللّه سبحانه وتعالى من الناس وأعمالهم؟
وفى قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا}.
إشارة إلى جواب هذا السؤال، وهو أنهم سيحاسبون على هذه الأعمال، كبيرها وصغيرها، في الدنيا والآخرة.. أما في الدنيا فيكون الحساب والجزاء من غير أن يحضروا هذا الحساب، أو أن يعرفوا سبب هذا الجزاء الذي يجزون به.. وأما في الآخرة، ويوم يرجعون إلى اللّه فينبئهم بما عملوا، حيث يرون كل ما عملوه حاضرا، فيعرف كل عامل ما عمل، وما لعمله من ثواب أو عقاب.. كما يقول سبحانه: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [6- 8 الزلزلة] وكما يقول جل شأنه: {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [13، 14: الإسراء].
وهذا هو بعض السر في الانتقال من الخطاب: {قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ} إلى الغيبة: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا}.
وكان النظم يقضى بأن يجىء هذا المقطع من الآية الكريمة هكذا: {ويوم ترجعون إليه فينبئكم بما عملتم}.
وذلك لأن الخطاب بعلم اللّه سبحانه وتعالى بما عليه الناس من خير أو شر- هو خطاب عام، موجه إلى الناس جميعا.. أما قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا} فهو موجه إلى المكذبين بهذا اليوم، الذين لا يرجون لقاء اللّه، ولكن على طريق الإيماء، وذلك بتوجيه الحديث ـ الذي هو من شأنهم- إلى غيرهم، من المؤمنين الذين يؤمنون باليوم الآخر، وما يلقى الناس فيه.. وكأنهم بهذا غير أهل لأن يخاطبوا.. وأنه إذا كان ثمة حديث {إليهم}، فليوجه إلى غيرهم، ممن هم أهل لأن يسمعوا، ويعقلوا، وأنه إذا كان لهؤلاء المكذبين بهذا الحديث، عودة إلى أنفسهم، وإلى النظر في هذا الحديث، فليأخذوه من أهله.
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
هذا، واللّه أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5